الجزءالثالث من تلخيص كتاب"التفكير بسرعة والتفكير ببطء"تأليف: دانيل كانمان


خداع العقول
في كتابه ”البجعة السوداء“، تعرض ”نسيم طالب“ لنظريةالقصص الخادعة كي يشرح الكيفية التي تشكل بها قصص
الماضي المزيفة نظرتنا إلى العالم وتوقعاتنا حول المستقبل.لا بد أن تظهر تلك القصص في أثناء محاولاتنا المستمرة
لفهم العالم. وتتسم تلك الروايات التفسيرية التي نشعربأنها مقنعة بكونها بسيطة وملموسة أكثر منها مجردة، كما
أنها تسند دورًا كبيرًا إلى الموهبة ومستوى الذكاء والنواياوليس الحظ، وتركز على القليل من الأحداث اللافتة التي
وقعت وليس على أحداث لم تحدث لا حصر لها. ووفقًال”طالب“، أي حدث بارز من الممكن أن يصبح نواة لقصة
تفسيرية. فهو يشير إلى أننا نخدع أنفسنا حين نحيكقصصًا مهلهلة حول الماضي ثم نصدقها.تقدم تلك القصص المحبوكة تفسيرات بسيطة ومقنعة حولأفعال البشر ونواياهم. فنحن دائمًا على استعداد لتفسيرالسلوكيات كدليل على ميولنا العامة وصفاتنا، وهي أسباب يمكننا بسهولة مضاهاتها بالنتائج. ويساهم الأثر الذيتخلقه الجاذبية الشخصية التي تطغى على أبطال أو أحداثتلك القصص في إقناعنا بها؛ لأنها تجعلنا نميل إلى مقارنةوجهات نظرنا حول جميع سمات شخص ما بحكمنا على
سمة محددة بارزة من سماته. وبالتالي، فإذا اعتقدنا أن أحدلاعبي كرة القدم وسيم ورياضي، فمن المحتمل أن نعتبره
أيضًا أفضل لاعب. ولتلك الجاذبية أيضًا أثر سلبي، فإذااعتقدنا أن أحد اللاعبين دميم، فسننظر إلى قدراته الرياضية
على أنها متدنية. تساعد الجاذبية الشخصية على الحفاظعلى بساطة ومنطقية القصص التفسيرية من خلال المبالغة
في اتساق التقييمات: فالطيبون في تلك القصص صالحونعلى طول الخط، أما الأشرار فطالحون على طول الخط.
بالتالي، سنشعر بالصدمة إذا سمعنا أن شخصًا شريرًا يحب الأطفال أو يحب الحيوانات مهما بلغ عدد مرات استماعنا
إلى تلك المعلومة، لأن أي لمسة حنان يظهرها ستخالفتوقعاتنا التي كوناها عنه تأثرًا بمدى جاذبيته، كما أن عدم
الاتساق في تقييمه يشوش أفكارنا ومشاعرنا.
العواقب الإجتماعية للإدراك المتأخر
يعتبر العقل الذي يختلق الروايات حول الماضي عضوًا مفكرًا. فحين يقع حدث غير متوقع، سرعان ما نعدل نظرتنا إلى العالم كي نتكيف مع تلك المفاجأة. تخيل أنكتشاهد مباراة كرة قدم بين فريقين لديهما نفس عدد مراتالفوز والخسارة، فبعد انتهاء المباراة وفوز أحدهما علىالآخر، ستراجع نظرتك إلى العالم لأنك الآن تعتقد أنالفريق الفائز أقوى كثيرًا من الفريق الخاسر، وبالتالي،
فستتبدل نظرتك إلى الماضي وكذلك المستقبل بفضل هذاالتصور الجديد. والفكرة هي أن التعلم من المفاجآت أمرمقبول، ولكنه قد يكون له بعض العواقب الخطيرة.من ضمن أوجه القصور العامة للعقل البشري عجزه عنإعادة تشكيل معارفه حول الماضي أو اعتقاداته التي طرأعليها التغيير، فبمجرد أن يتبنى المرء نظرة جديدة إلىالعالم (أو إلى أي جزء منه)، يفقد في الحال جزءًا كبيرًا
من قدرته على تذكر اعتقاداته القديمة. يعكف العديدمن علماء النفس إلى الآن على دراسة ما يحدث حينيغير الناس آراءهم. فعلى سبيل المثال: يختار العاِلم الذي يجري التجربة موضوعًا لا يوجد رأي قاطع حوله،كعقوبة الإعدام، ويعمد إلى قياس سلوكيات الناس تجاه هذاالموضوع بحرص، وبعد ذلك توجه إلى المشاركين رسالةمرئية أو مسموعة لإقناعهم بتلك الفكرة أو بمعارضتها، ثم
يقيس العاِلم سلوكيات أفراد التجربة من جديد. وفي العادةتظهر سلوكياتهم استجابة للرسالة التي استمعوا إليها. وفيالنهاية، يتحدث أفراد التجربة عن آرائهم السابقة حولعقوبة الإعدام، وقد يشعرون بأن تلك المهمة صعبة لأنهمأعادوا تشكيل تلك الآراء، مما يجعلهم يسترجعون آراءهم الحالية بدلاً من السابقة، أي أنهم يجرون عملية إحلال وتبديل، ويُذهل الكثير منهم من أنهم كان لديهم شعورمختلف تجاه تلك المسألة من قبل.
البديهة مقارنة بالصيغة الثابتة
فلنفترض أنك صاحب شركة وبحاجة إلى توظيف مندوبمبيعات. فإذا كانت رغبتك جادة في تعيين أفضل شخص
في هذا المنصب، فتلك هي مهمتك التي يجب أن تعملمن أجلها. أولاً، اختر بعض الصفات اللازمة للنجاح في
هذا المنصب (كالمهارة الفنية والمسؤولية والموثوقية وماإلى ذلك). ولكن لا تبالغ في عدد الصفات المطلوبة، ست
صفات تكفي. ويجب أن تكون كل صفة من تلك الصفاتمستقلة عن الأخرى قدر الإمكان، كما يجب أن تشعر بأنك
تستطيع حقًا تقييمها من خلال بعض الأسئلة العملية. بعدذلك، عليك بإعداد قائمة بتلك الأسئلة والسمات التي ترمز
إليها والتفكير في كيفية توزيع الدرجات عليها. يمكنك،على سبيل المثال، تخصيص خمس درجات لخمسة أسئلة.
ويجب أن تكون لديك فكرة عما يمكنك أن تعتبره ”جيدًاجدًا“ أو ”سيئًا جدًا“ في أثناء عملية التقييم.
ستستغرق تلك الإعدادات نصف ساعة من وقتك تقريبًا.
لذلك، فهي استثمار صغير من شأنه تحقيق اختلاف كبيرفي جودة الموظفين الجدد. ولكي تتجنب التأثر بالجاذبية
الشخصية، من الضروري أن تجمع معلومات حولالصفات التي اخترتها كي تخصص لها الدرجات واحدة تلوالأخرى، ولكن لا تتعجل في التقييم. ولأنك مسؤول عنالقرار النهائي، يجب ألا ”تغض الطرف“ عن أي شيء.
اتخذ قرارًا صارمًا بأنك ستوظف المتقدم الذي يحرزدرجات أعلى، حتى إذا كنت تفضل متقدمًا آخر. حاولأن تقوِّم رغبتك في اختلاق حجة لتبديل ترتيب المتقدمين.
هناك عدد ضخم من الأبحاث الواعدة في هذا الصدد،والتي تشير إلى أن احتمال أن تعثر على المتقدم الأفضلإذا استخدمت هذا الإجراء يفوق احتمال أن تعثر عليه إذافعلت ما يفعله الناس عادةً في مثل هذا الموقف، حيثإنهم يذهبون إلى المقابلة وهم غير مستعدين، ويتخذونقراراتهم حيال المتقدمين بالاعتماد التام على أحكامهمالبديهية ، لذلك تجدهم يقولون إنهم ”شعروا بأن هذا هوالشخص المناسب“.
بديهة الخبراء : متي نستطيع أن نثق بها؟
ثقة الناس ببديهتهم ليست دليلاً سليمًا على صحة آرائهم.
بعبارة أخرى: لا تثق بأي شخص، ولا حتى نفسك فيالحكم على الأشياء.
إذا كنا لن نثق في حكمنا الشخصي على الأشياء، فكيف نقيماحتمال صحة أحد أحكامنا البديهية؟ متى تعكس أحكامنا
خبراتنا الحقيقية؟ ومتى ننخدع حول صحتها؟ ترتبط
إجابة الأسئلة السابقة بشرطين أساسيين لاكتساب المهارة:
توافر بيئة منتظمة بدرجة كافية لكي نستطيع التنبؤ بها وجود فرصة للتعلم من هذا الانتظام من خلال الممارسة المستمرة
عندما يتحقق هذان الشرطان، من الممكن صقل البديهة.
فالشطرنج، على سبيل المثال، لعبة بيئتها منتظمة للغاية،ولكن غيره من الألعاب أيضًا يقدم إحصاءات سليمة منتظمةيمكنها أن تصقل تلك الموهبة. الأطباء والممرضونوالرياضيون والإطفائيون يواجهون أيضًا مواقف صعبةولكنها منتظمة بطبيعتها. تتحقق البديهة الدقيقة من خلالإشارات سليمة من تلك التي تعلم النمط الأول للعقل الخبيراستخدامها، حتى إذا كان النمط الثاني لا يستطيع إطلاق اسمعليها. وعلى عكس ذلك، يعمل مستشارو الأسهم والعلماءوالسياسيون في بيئة لا يمكن التحقق منها على الإطلاق.
ويعكس فشلهم طبيعة تلك الأحداث التي يحاولون التنبؤ بهاوالتي يعتبر توقعها أمرًا مستحيلاً.
توجد بيئات أسوأ من البيئات غير المنتظمة، ومن الممكنوصف تلك البيئات بأنها ”فاسدة“، فمن المحتمل أن يتعلم
المحترفون الدروس الخاطئة من خلال خبراتهم التييكتسبونها من خلالها. ومن الأمثلة على ذلك، حالة طبيب
ينتمي إلى القرن العشرين كانت لديه عادةً أفكار بديهيةحول المرضى الذين كانوا على وشك الإصابة بالتيفود.
ولسوء الحظ، اعتاد الرجل أن يختبر الإحساس الداخليللمريض بالكشف على لسانه باللمس ولم يكن يغسل يده
بين الكشف على مريض وآخر. وحين أصيب المرضىبالمرض واحدًا تلو الآخر، شعر الطبيب بنجاحه الطبي
المؤكد. كانت تنبؤاته دقيقة ولكن ليس السبب في ذلكممارسته للبديهة المهنية!
نمط تفكيرنا يعبران عن جانبي ذواتنا
نمط تفكيرنا الثاني المنتبه يشمل نظرتنا إلى أنفسنا.
ويصدر هذا النمط الأحكام كما يتخذ القرارات، ولكنه غالبًاما يصادق على الأفكار التي ابتكرها النمط الأول أولاً. قدلا تعلم أنك متفائل بأحد المشروعات لأن شيئًا ما في مديرهيذكرك بأختك الحبيبة، وقد تكره أحد الأشخاص لوجودشبه ما بينه وبين طبيب أسنانك. وإذا سُئلت عن تفسيرذلك، فستفتش في ذاكرتك عن أسباب مقبولة وستعثر علىصُمم النمط الأول كي يقفز إلى الاستنتاجات استنادًا إلى أدلة ضعيفة، كما أنه لم يصمَّم لمعرفة حجم تلك القفزات. كل مايهمه هو الأدلة التي بين يديه، ولأن الاتساق يدعم الثقة، فإن ثقتنا الوهمية التي نضعها في آرائنا تعكس اتساق القصة التيحاكها النمطان الأول والثاني. أما كم الأدلة وجودتها، فلا يلعبان دورًا كبيرًا لأن الأدلة الضعيفة قد تتشكل من خلالها قصةشديدة الحبكة، فليس لدينا دليل على الإطلاق فيما يتعلق ببعض من اعتقاداتنا بالغة الأهمية، فيما عدا أن أحباءنا موضع ثقتنالديهم نفس الاعتقادات. وبالمقارنة بكم معلوماتنا الضئيل، فإن ثقتنا في اعتقاداتنا غير منطقية ولكنها أيضًا ضرورية.
بعض منها بالتأكيد، ولكنك ستصدق تلك القصة التي اختلقتها.لا يلعب النمط الثاني دور المدافع عن النمط الأول وحسب،
فهو أيضًا يمنع التعبير الصريح عن العديد من الأفكار الحمقاءوالبواعث غير المناسبة. ويحسن استثمار تركيز الأداء فيالعديد من الأنشطة، كقيادة السيارة على طريق ضيق حينيكون العقل شاردًا، كما أنه ضروري لإنجاز بعض المهام،ومن ضمنها المقارنة والاختيار والتفكير المنظم، ولكنالنمط الثاني ليس نموذجًا مثاليًا للعقلانية، فقدراته محدودة،وكذلك المعلومات التي يمكنه الوصول إليها؛ وذلك لأننا لانفكر بأسلوب مباشر دائمًا، كما أن أخطاءنا ليست دائمًا نتاجًالبديهتنا الفضولية الخاطئة، بل إننا نرتكب الأخطاء لأننا (أينمطنا الثاني) لم نكن نعرف تصرفًا أفضل مما أقدمنا عليه.ولكن النمط الأول هو مصدر الكثير من أخطائنا، كما أنه
أيضًا مصدر أفعالنا السليمة، والتي تشكل معظم سلوكياتنا، إذتتحرك أفكارنا وأفعالنا بصورة روتينية من خلال النمط الأول
الذي يحركها بشكل عام في الإطار الصحيح. ومن عجائبهذا النمط أنه يجعل ذاكرتنا الارتباطية تحتفظ بنموذج عالمنا
الغني المليء بالتفاصيل، والذي يميز الأحداث العادية منالمفاجآت في أقل من الثانية، فيشكل في الحال فكرة عما كان
يجب أن يحدث بدلاً من المفاجأة، ثم يبحث بتلقائية عن تفسيرسببي منطقي لتلك المفاجآت والأحداث.
نقلا عن www.edara.com
تم نشر هذا المحتوي علي جريدة عالم التنمية برعاية
أكاديمية “بناة المستقبل” الدولية و” المنظمة الامريكية للبحث العلمي”
برئاسةأم المدربين العرب – الدكتورة “مها فؤاد” مطورة الفكر الإنساني

#بناة_المستقبل
#أكاديمية_بناة_المستقبل
#راعي_التنمية_بالوطن_العربي



